الأحد، 12 نوفمبر 2023

 

الصراع الإنساني

عندما خلق الله الإنسان أوجده على الفطرة، وفطرة الإنسان هي أبعد ما تكون عن هذه الحياة المادية، فهي متصلة بين جسد هذا الإنسان وبين السماء، وهذا ما وجدناه في قصة (( حي بن يقظان)) حينما اعتقد بأنَّ الدَّين وتفصيلاته بالأمور المعاملات: كالتجارة، والزكاة، إنما كان إجهادًا للعقل إذ أنَّ الحياة أبعد ما تكون عن هذه الأمور؛ لأنَّ باعتقاده لا ينبغي للإنسان أن يتملك، ولكن حينما ذهب إلى القرية ووجد كيف أنَّ البشر هناك قد انغمسوا بالمادة، علم لماذا قد فصَّل الله تعالى في هذه المعاملات.

كذلك نجد في كتاب المساكين ((قصة الشيخ علي))  [1]وكيف أنَّه كان أبعد ما يكون عن هذه المادة، وكان يعتقد هذا الشيخ أنَّ كل ما لم ينله من هذه المادة فهي مصيبة لم تنله.

هنا يراودنا سؤال مهمٌ جدًا إذا كان الإنسان قد خُلِقَ وهو بعيد عن المادة فكيف تحول صراعه إلى هذه العملة الفانية؟ في الحقيقة أجاب على هذا السؤال الشيخ مصطفى صادق الرافعي في كتابه " المساكين"

وقد أرجأ السبب الحقيقي خلف هذا الصراع إلى الحضارة أو كما يقول هو " يومئذٍ كان عمل الفرد الواحد للقبيلة كلها؛ لأنَّه في الاجتماع بقبيلته لا بنفسه، وكان الفرد في عهد الجماعة إنَّما يقاتل على الرزق، فأصبح في عهد القبيلة يقاتل على الطمَّاح إليه، والاستكثار منه ولم يكن في تاريخه ما يقذع هذا الطماح أو يكفُّه أو يرد فيه ردًا، فاسترسل إليه، ونشأ من ذلك في نفسه معنى الجمع والادِّخار وأن يمهد لغيره من بعده.

ثم استفاض الدَّهر بحوادثه وعصوره، وقامت المماليك واستجمت الأمم، واستبحر العمران وما برح ذلك المعنى يتسع ويتتابع ويتلَّون في تاريخ طويل حتى عاد ذلك القتال الأول فرَّق ثم رقَّ إلى أن صار قتالًا في الأسواق بين جماعات الدَّراهم والدَّنانير وكان النزاع بين فردٍ وفرد وبين قوة وقوة، فارتقى وتهذَّب حتى رجع إلى أن صار نزاعًا بين خلق وخلق، وبين حيلة وحيلة، وبعد أن كان الميدان في رقعة هذه الأرض، صغر شيئًا فشيئًا حتى أصبح في رقعة الضمير...

فالإنسان المتمدن هو ذلك الإنسان المتوحش في عمله للقبيلة إذ يكنز الكنوز، ويعقد العقد، ويرتبط الأموال غير أنَّه قد حصر معنى القبيلة في نفسه". [2]

ولذلك قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [3]

وقد فسَّرها ابن كثير في قوله: " عن ابن جريح وعطاء عن ابن عباس قال: في شدَّة خلق، وقد قال سعيد بن جبير في شدَّة وطلب المعيشة"[4].

فالإنسان من فطرته أن يبحث عن الرزق، وأن يرغب بالتملك، ولكن لم تكن فطرته يومًا أن يصل به الأمر إلى حد الطمع والبخل، ولكن إلى ما يسد حاجاته اليومية، ولم يصل به الأمر إلى حد الطمع، وإنَّما ظهرت هذه الظاهرة مع ظهور ما نسميه بالحضارة، فلم يعد الإنسان يرغب فقط بإشباع بطنٍ واحدة، بل يرغب بإشباع خمسة بطون معًا.

فهذا الطمع والجشع الذي سيطر على الإنسان ليخوض صراعًا على المناصب، والسلطة، ويصبح أداة لشهواته جعلاه حيوانًا لا إنسانًا بعقل وقلب تفكَّر بهما.

والآن ليتفكر كل واحد منَّا إلى أين أوصله طمعه وشجعه وحبه للمال والجاه والمناصب؟ ما الذي جناه هذا الإنسان بعد أن أتعب النَّفس بإشباعها أو بمحاولة إشباعها من الملَّذات وكلمَّا حصل على شيء أراد أن يحصل على الأكثر؟

السعادة لم تكن يومًا في الحصول على المادة، وإنَّما كانت السعادة دومًا في الأمور المعنوية، أن تسير بحاجة أخاك، أو أن تسير في حاجة ملهوف، أو أن تفك رقبة وتعين محتاج.

هذه هي السعادة الحقيقية! السعادة المرتبطة بين قلبك والسماء، أنت لا تنتظر المساعدة أو الشكوى من أحد، ولكن تنتظر الأجر الوفير من رب العرش الكبير.

بقلم: نور نعساني.

 



[1] ) كتاب المساكين للشيخ صادق الرافعي والذي يتكلم به من ألآخره عن الشيخ علي.

[2] ) كتاب المساكين، مصطفى صادق الرافعي، المكتبة العصرية، بيروت لبنان، الطبعة الثانية، ص 30+31

[3] ) سورة البلد الآية 4.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  عوض الله ما زالت ذكريات تلك الأيام في مخيلتي، تلك الأيام التي كنت قد وضعت ثقتي بأحدهم، فلم تمض الأيام إلا وقد خُذلت، مددت يومًا يدي لأحد...