الجمعة، 19 يناير 2024

 

طائرٌ مغتربٌ

كان هناك طائرٌ صغيرٌ لطيفٌ، يقف فوق أغصان الشَّجرة يلعب هنا وهناك، مرةً مع إخوته، ومرةً مع أصدقائه.

كانت تلك الشَّجرة تغدو مصدر أمانٍ له، ولكن في يومٍ من الأيام أصيبت هذه الشَّجرة بحريقٍ مفاجئ، لم يعلم أحدٌ من أين ظهر؟ مات من الطُّيور من مات، ونجا منهم من نجا، وكان من بين النَّاجين هذا الطَّائر الذي خسر أسرته، وبيته، وبعض من أصدقائه، لم يبق أحدٌ من أصدقائه إلا القلَّة القليلة، ولكنَّهم تفرَّقوا كلُّ ذهب لمكانٍ يعتقد أنَّه قد يكون مصدر الأمان له.

سكن هذا الطَّائر في شجرةٍ، ولكن هو ليس من أهل هذه الشَّجرةِ، بل هو غريب عنها، وكان كلُّ صباحٍ يخرج بمفرده ليبحث عن قوت يومه، وفي أثناء ذلك يجد بقيَّة الطُّيور تلعب هنا وهناك، وتتسابق للبحث عن الطَّعام فيتذَّكر أيامه الخوالي، وما كان يحدث في تلك الشَّجرة، ولكنَّه سرعان ما أفرد جناحيه، وطار والدُّموع تتساقط من عينيه، فقد شعر بالوحدة القاتلة، وعلم أنَّ ما خسره محالٌ أن يستردَّه.

أدرك لأول مرةٍ أنَّه لن يتمَّكن من تعويض ما خسره، وأنَّ عليه أن يكمل تلك الحياة لوحده، وهو يحمل تلك الذِّكريات الأليمة، وأدرك للمرة الأولى أنَّ كلَّ شيءٍ لن بعود كما كان، وأنَّ عليه أن يتقبَّل هذا الواقع، تمنَّى في بعض الأحيان لو أنَّه لم ينجُ من ذلك الحريق، ولكن كان لا بد له أن يتقبَّل هذه الحقيقة، أنَّه أحد النَّاجين لذلك.

قرر هذا الطَّائر الطيران وترك أحداث الماضي خلف ظهره، وأدرك أخيرًا أنَّ الحريَّة هو ترك أحداث الماضي وراء ظهره، وأن يعيش في زمن الحاضر وأن يحاول أن يتأقلَّم مع محيطه الجديد سواءً أرغب في ذلك أم لم يرغب، وإن لم يتمكَّن من تحملِّه أن يعتزل هذا المكان للأبد وينتقل إلى مكان آخر.

 

الجمعة، 12 يناير 2024

                                                                         ردًا على مقالة (أين الخلل) [1]

قرأت مرة مقالة الشيخ علي الطنطاوي بعنوان أين الخلل، طرح فيها تساؤلات كثيرةً، وعميقةً، وأكثر سؤالًا كان عميقًا وأكثرهما أهمية، بل يعدُّ محور الحديث وجوهره هو: لماذا نطبق نصف الدِّين على حياتنا، ونصفه الآخر لا يكاد يذكر؟ لماذا ننفعل بتلك الخطب الحماسية، ولكن لا يوجد إلا القلِّة القليلة من يطبقها في حياته؟ فجلست أتأمل، وأقارن قلوبنا اليوم، وقلوب الصحابة رضوان الله عليهم، ومن خلال اطلاعي لمقالاته وجدت أنَّ الشيخ الفضيل – رحمه الله – كان على علم بالإجابة، ولكن أتسائل هل تمكنت أنت أيها القارئ من معرفة تلك الإجابة؟

إنَّ السبب بسيطٌ جدًا، ولكن على رغم بساطته فهو أيضًا لا يقل خطورة عن مرض الطَّاعون، إن لم يكن أقل خطورةً منه؛ والسبب عائدٌ على تلك القلوب التي لم يتمكن الإيمان منها حقَّ التَّمكين، ولو أنَّه تمكَّن منهم لما وصلنا لهذا الضعف.

فمثلًا عندما قال الشيخ: " هذا الرجل يصلي ويصوم، ولكن رزقه حرام". فالإسلام عند هؤلاء هو أشبه بظاهرةٍ لا بعقيدةٍ كيف ذلك؟ إنَّ أغلبيَّة المسلمين اليوم يحملون الدِّين على أنَّه مظهر، أو قناع، لا على أنَّه دين وعقيدة، فهم يعتقدون بأنَّه مجرد قناع يرتدونه لإرضاء بني جلدتهم، ولكن سرعان ما ينزعونه حينما يشعرون بالأمان، وما يفعلونه اليوم، هو يشابه أفعال المنافقين تمامًا.

أيها القارئ، دعني أضرب لك مثالًا على ذلك من عصرنا الحالي حتى تتقرب الصورة إلى ذهنك أكثر: فتاة تعيش في بلدٍ مسلم تضع الحجاب، وتضرب على وجهها، وعندما تخرج من بلدها تتحول إلى سافرة، كاشفة، فاسقة، ترتكب المحرمات هنا وهناك، فالدِّين الإسلامي اليوم تحول إلى عادةٍ وتقليدٍ، فالواحد منَّا يصلي ويصوم فقط لأنَّ والداه يفعلان ذلك، وهذا الشَّاب يقرأ القرآن؛ لأنَّ والده يفعل ذلك، وهذه الفتاة تضع الحجاب فقط؛ لأن والدتها تضع الحجاب، وهذا كلُّه إذا دلَّ على شيءٍ دلَّ على سوء الفهم للدِّين الإسلامي، وهذا هو جوهر المشكلة.

فالدِّين الإسلامي في زمن الصحابة رضوان الله عليهم كان راسخًا عندهم أنَّه عقيدة، وشرف، ولن يكونوا مسلمين إن لم يطبقوا تعاليمه بدِّقةٍ متناهيةٍ، وكان الرسول صلوات الله وسلامه عليه يقوم بترسيخ الدِّين والعقيدة في قلوبهم.

صحيح أنَّ بعض الصَّحابة كان يقترف المحرمات، ولكنَّهم سرعان ما يقام عليهم الحد ويتوبون؛ لأن الدِّين عندهم هو شريان الحياة، فإن انقطع الدِّين انقطع معه الحياة عن الأجساد.

امّا اليوم فقد أضحى الهوى، والشهوات، وحب الدُّنيا، هم شريان الحياة، وهذا هو السبب الرئيسي؛ لضعف الدِّين الإسلامي، فنحن نفرح عندما نتذكر أننا أمُّةٌ كنَّا قد سطَّرنا التَّاريخ، وملكنا مشارق الأرض ومغاربها، ولكن في الوقت ذاته نغضب ممن يذكِّرنا بأنَّ علينا أن نستقيم، وأن ندع الملذات، والحرمات، وأن نعبد الله حقَّ عبادته، ونقول وهل نحن رجعيون؟!

إنَّ الإسلام اليوم لا يحتاج إلى خطبٍ حماسيةٍ، ولا إلى هتافاتٍ، بل يحتاج إلى قلوبٍ قويةٍ، وإلى أناسٍ ينفذون أكثر مما يقولون، وعقولٍ مفكرةٍ، لا مقلدةٍ.

إن الخلل يكمن في القلوب والعقول، فإن أصلحناهما أصلحنا أمَّتنا، ولا أقول إلا كما قال ابن الجوزي في كتابه "صيد الخاطر" "إنَّه ليس من العجيب ممن يتَّبع هواه، ويبتغي الَّلذَّة سواءٌ أكانت في الحلال أم في الحرام، بل العجب ممن يخالف نفسه وهواه ويتَّيع رضا الله"[2] فأروا الله العجيب يريكم العجب العجاب 

 



[1] ) هذه المقالة استقريتها من كتاب علي طنطاوي في كتابه فصول في الدعوة والإصلاح ص 31، وقد كتبت هذا الموضع ردًا على التساؤلات التي طرحها الشيخ الفضيل رحمة الله عليه، حتى يفهم الناس سر الخلل الحاصل اليوم ويبادرون بحله واستدراكه قبل أن يتفاقم (نور)

[2] ) علي الطنطاوي، فصول في الدعوة والإصلاح، دار المنارة، ص 68

  عوض الله ما زالت ذكريات تلك الأيام في مخيلتي، تلك الأيام التي كنت قد وضعت ثقتي بأحدهم، فلم تمض الأيام إلا وقد خُذلت، مددت يومًا يدي لأحد...